كانت رحمة الله بالعالمين، أن بعث فيهم الهادي الأمين، الذي أخذ بأيدي الناس إلي صراط الله العزيز الحميد.
و لم يكن مولد الهادي صلي الله عليه و سلم، مفاجأة للعرب و العالم، بل كانت هناك الإرهاصات الواضحة و الكثيرة التي تبشر بمقدمه عليه الصلاة و السلام.و لهذا فلنتصفح و ننتقل إلي صفحات التاريخ لنقرأ سويًا.
عن ابن الكلبي قال:... لما ملك سيف بن ذي يزن أرض اليمن و قتل الحبش و أبادهم وفدت إليه أشراف العرب و رؤساؤهم ليهنئوه بما ساق الله من الظفر.
و وفد وفد قريش و كانوا خمسة من عظمائهم:عبد المطلب بن هاشم، و أمية بن عبد شمس، و عبد الله بن جدعان، و خويلد بن أسيد، و وهب بن عبد مناف بن زهرة.
فساروا حتي وافَوا مدينة صنعاء، وسيف بن ذي يزن نازل بقصر يقال له غمدان، و كان أحد القصور التي بنتها الجن لبلقيس بأمر سليمان، فأناخ عبد المطلب و أصحابه و استأذنوا علي سيف فأذن لهم.
فدخلوا و هو جالس علي سرير من ذهب، و حوله أشراف اليمن و وضعت لهم كراسي الذهب فجلسوا عليها إلا عبد المطلب فإنه قام ماثلًا بين يديه و استأذنه في الكلام.
فقال أيها الملك إن الله قد أحلك مَحلًا رفيعًا شامخًا منيعًا، و أنبتك منبتًا طابت أرومته و عزت جرثومته، و ثبت أصله و بسق فرعه، في أطيب مغرس و أعذب منبت، فأنت الملك ربيع العرب الذي إليه ملاذها، و وردها الذي إليه معادها، سلفك خير سلف، و أنت لنا منهم خير خلف، و لن يهلك الله من أنت خلفه، و لن يخمل من أنت سلفه.
نحن أيها الملك أهل حرم الله و سدنة بيت الله، أوفدنا إليك الذي أبهجنا من كشف الضر الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة.
فقال سيف:أنتم قريش الأباطح؟ قالوا نعم.قال مرحبًا و أهلًا و ناقةً و رحلًا و مناخًا سهلًا، و ملكًا سمحلًا يعطي عطاءً جزلًا، قد سمع الملك مقالتكم و عرف فضلكم، فأنتم أهل الشرف و الحمد و الثناء و المجد، فلكم الكرامة ما أقمتم و الحباء الواسع إذا انصرفتم.
ثم قال لعبد المطلب:أيهم أنت؟ قال:أنا عبد المطلب بن هاشم.قال:إياك أردت و لك حشدت، فأنت ربيع الأنام وسيد الأقوام، انطلقوا و أوسدوا حتي أدعو بكم، ثم أمر بإنزالهم و إكرامهم.
فأقاموا شهرًا لا يدعوهم، حتي انتبه ذات يوم فأرسل إلي عبد المطلب:ايتني وحدك من بين أصحابك.
فأتاه فوجده مستخليًا لا أحد عنده، فقربه حتي أجلسه معه علي سريره، ثم قال:يا عبد المطلب إني أريد أن ألقي إليك من علمي سرًا لو غيرك يكون لم أبح به إليه، غير أني رأيتك معدنه، فليكن عندك مصونًا حتي يأذن الله فيه بأمره، فإن الله منجز وعده و بالغ أمره.قال عبد المطلب:أرشدك الله أيها الملك.
قال سيف:إني أجد في الكتب الصادقة و العلوم السابقة التي اخترناها لأنفسنا، و سترناها عن غيرنا خبرًا عظيمًا و خطرًا جسيمًا فيه شرف الحياة و فخر الممات، للعرب عامة، و لرهطك كافة، و لك خاصة.
فقال عبد المطلب لقد أبتُ بخير ما آب به وافد، و لولا هيبة الملك و إعظامه لسألته أن يزيدني من سروره إياي سرورًا.
فقال سيف:نبي يبعث من عقبك، و رسول من قرنك، اسمه أحمد و محمد و هذا زمانه الذي يولد فيه أو لعله قد ولد، يموت أبوه و أمه، و يكفله جده و عمه و الله باعثه جهارًا، و جاعل له منا أنصارًا، يعز بهم أولياؤه و يذل بهم أعداءه، تخمد عند مولده النيران، و يعبد الواحد المنان و يزجر الكفر و الطغيان، و يكسر اللات و الأوثان، قوله فصل و حكمه عدل، يأمر بالمعروف و يفعله، و ينهي عن المنكر و يبطله.
و قال:و البيت ذي الحجب، و الآيات و الكتب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب.
فخر عبد المطلب ساجدًا.قال سيف:ارفع رأسك، ثلج صدرك و طال عمرك، و علا أمرك، فهل أحسست بشىءٍ مما ذكرت لك؟
قال عبد المطلب:نعم أيها الملك، كان لي ابن كنت به معجبًا، فزوجته كريمة من كرائم قومي يقال لها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمدًا و أحمد، مات أبوه و أمه، و كفلته أنا و عمه.
قال: هو هو لله أبوك، فاحذر عليه أعداءه.و إن الله لم يجعل لهم عليه سبيلًا، و لولا علمي أن الموت مجتاحي قبل ظهوره لسرت إليه بخيلي و رجلي حتي أجعل مدينة يثرب دار ملكي، فإني أجد في كتب آبائي أن بيثرب استتباب أمره، و هم أهل دعوته و نصرته، و فيها موضع قبره، و لولا ما أجد من بلوغه الغايات و أن أقيه الآفات و أن أدفع عنه العاهات، لأظهرت اسمه و أوطأت العرب عقبه، و إن أعش فسأصرف ذلك إليه.
قم فانصرف بمن معك من أصحابك.ثم أمر لكل رجل منهم بمائتي بعير و عشرة أعبد من الحبش و عشرة أرطال من الذهب و حلتين من البرود.و أمر لعبد المطلب بمثل جميع ما أمر لهم، و قال له:يا عبد المطلب إذا شب محمد و ترعرع فاقدم علي بخبره.ثم ودعوه و انصرفوا إلي مكة.
فكان عبد المطلب يقول لا تغبطوني بكرامة الملك إياي دونكم و إن كان ذلك جزيلًا و فضل إحسانه إلي و إن كان كثيرًا، اغبطوني بأمر ألقاه إلي من شرفٍ لي و لعقيبي من بعدي.فكانوا يقولون له:ما هو؟ فيقول:ستعرفونه بعد حين.
فمكث سيف باليمن ملكًا عدة أحوال، و إنه ركب يومًا كنحو ما كان يركب للصيد و قد كان قد اتخذ من السودان نفرًا يجهزون بين يديه بحرابهم، فعطفوا عليه يومًا فقتلوه و بلغ كسري أنو شروان فرد إليهم هرمز و أمره أن لا يدع أسود إلا قتله.
و جاء النور بمولد سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ليعم الخير ربوع العالم، و ليكون خاتمًا للرسل، فهنيئًا لنا نحن المسلمين بإسلامنا، و هنيئًا لنا برسولنا، و هنيئًا لمن اقتفي أثره منا، و سار علي دربه حتي نلقاه علي حوض الكوثر بإذن الله.
الكاتب: د. عمر عبد الكافي
المصدر: موقع د. عمر عبد الكافي